يقول أحدهم: أصبحت وأنا أشعر بالكآبة، وسِمَةُ الحُزْنِ ترتسم على مُحَيَّاي.. لا أعرف سبباً مباشراً لذلك.. ولكن، لعله بعد حديث المساء.. فقد اجتمعنا زملاء الدراسة وأصدقاء الطفولة.. تحدثنا عن حياتنا.. عن أعمالنا.. خرجت بانطباعٍ عام..الغالبية لديهم المال.. ينفقون كما يحلو لهم.. كما يشاءون. فلان له كذا وكذا من العقار.. وفلان مثله أو يزيد.. وأنا أقلّ الجميع! لعلِّي شعرت بالحزن.. وأصبَحَتْ الكآبة رفيقتي.. موعدي بعد صلاة العصر مع عبدالرحمن شاب بمقتبل العمر، دَمِثُ الأخلاق، حلوُ المَعْشَر، حاضر النكتة، من خيرة الشباب.. لعل في زيارته تخفيفاً لما أشعر به.. وكما توقعت.. ما إن أحسَّ أن هناك شيئاً ما في داخلي.. حتى تلاحقت أسئلته.. مابك..؟ وهل هناك ما يُكدِّر صفو أيامك..؟ احمد الله على ما أنت فيه من نعمة.. ثم أضاف بنبرة فيها عتاب "والله إنك في نِعَمٍ لاتُحْصَى ولا تُعَدّ، وأولها نعمة الإسلام".. تَمَهَّلَ في الحديث.. وأَكْمَل: "أنت حالك كحال رجلٍ جاء إلى أحد الصالحين، فشكا إليه ضِيقاً في حاله ومعاشه، واغتماماً بذلك.. فقال: أيَسُرُّك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا.. قال: فبسمعك؟ قال : لا.. قال له: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة..!" سكتُّ بُرْهةً.. ثم أجبته بصوت ضعيف "الحمد لله.." جاءت كلماته الصادقة.. وهو نعم الصديق.. "هل بقي شي من الكدر وضيق الصدر..؟ تذكر أمراً.." عندها رفع صوته وسألني بحدة : "كيف جعلتَ للضِّيق في صدرك مكاناً..؟ يومٌ كامل يصول ويجول الكدر والهم في قلبك..؟!! أين أنت عن الصلاة وقراءة القرآن؟؟ كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.. كل يوم لا تفوتك فيه قراءة الصحف والمجلات.. أين قراءة صحف ربك..؟ أين أنت من القرآن..؟ رفعت رأسي.. وأجبت "نعم".. قال: "هيا.."، وركبت معه في السيارة .. -"إلى أين يا عبدالرحمن..؟ هذه المقبرة ..!!!" -"أعرف أن هذا طريق المقبرة.. وأن هذه التي أمامنا المقبرة.. قال: تمهل ولا تستعجل الأمور لماذا تخاف..؟ دعنا ندخلها بأقدامنا قبل أن يُدخل بنا محمولين.. هذه دارنا الثانية.. دعنا نزرها.. "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية..اللهم لاتحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم..واغفر لنا ولهم..". بعد السلام على أهل القبور، تركت عيني تتجول في مساحة المقبرة.. أرض جرداء.. سكون خافت.. صمت متواصل.. لاتسمع حديثاً رغم كثرة الساكنين.. قبور متراصّة.. وجِيرة متباعدون.. لايعرف بعضهم بعضاً.. تضم الطفل الرضيع والأمير والوضيع.. الشيخ الكبير هنا قبره.. والعروس التي وُسِّدت الثرى ليلةَ زفافها هنا مرقدها.. مارأيك في هذا القبر.. وهذا اللحد.. ماذا تقول فيه..؟ هذا صندوق العمل، هذه دارك الثانية.. -"ياعبدالله.. انزل في هذا القبر.." أجبته بسرعة، وبصدق.. "لا أستطيع".. ومع إجابتي تراجعت قليلاً وابتعدت عن حافة القبر.. خوف أن أسقط.. أما عبدالرحمن فقد تقدّم، ونزل في القبر.. "باسم الله".. ووضع جنبه في اللحد.. "ما أحقر الدنيا.. هذه داري بعد الموت.. اللهم اجعل قبري روضة من رياض الجنة" بعد برهة، قفز من القبر.. أسمعني صوته.. { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } "بلى سنُرجَع.. بلى سنُرجَع.." التفت إليّ وهو يزيل التراب.. -"انزل عبدالله لتزول همومك".. أصابتي قشعريرة.. تمالكتُ نفسي.. ولمّا رأيت إصراره، نزلت.. ما أضيق القبر ولحده.. موحش ومظلم.. حتى الحركة، لاتستطيع أن تتحرك "ياعبدالله.." صوت من أعلى يناديني.. قدّر لنفسك أنك مت.. ودُفنت، ما العمل الصالح الذي قدمت..؟ أجَلْتُ طرفي يمنةً ويسرةً داخل القبر.. تفَكَّرتُ في أمرين: هوان الدنيا.. وطول الأمل.. سنرحل جميعاً ونترك كلّ شيء إلا العمل الصالح.. فلنكثر منه قدر استطاعتنا
2014-04-19 11:20:38
يقول أحدهم: أصبحت
sign in to comment
Be the first to comment