يقول علي الطنطاوي: يا أيها الأغنياء ألم يأْنِ لكم أن تخشع قلوبكم وتلين أفئدتكم ؟ ألا تُكلِّفون نفوسكم تحريك أجفانكم وفتح عيونكم لتروا البؤس وضحايا الفاقة ماثلين لكم في كل سبيل .. فتأخذكم بهم رحمة الإنسان وتَعروا قلوبكم لهم رِقَّةَ المؤمن ؟ لا أستطيع أن أتخيل كيف يهنأ صاحب القصر بطعامه وشرابه، وكيف يدلل صِبْيَته ويُضَاحِك عِياله وعلى عتبة قصره وتحت شبابيكه صِبْيَةٌ مثلهم بُرَءاءُ ما جَنَوا ذنباً .. أطهار ما كسبت أيديهم إثماً .. يبكون من الجوع ويشتهون قطعة من الرغيف الذي يلقيه الغني لكلبه السمين . لقد كان عندي في إحدى مدارس دمشق فصل (صف) فيه أبناءُ أفقرِ الفقراء .. وأبناءُ أغنى الأغنياء .. وكانوا في الفصل (الصف) منفصلين كأنهم في معسكرين، وكان هؤلاء يأتون إلى المدرسة بالسيارات ويوصلهم إلى بابها الخدم .. يحملون لهم كتبهم كيلا تتعب بها أيديهم الناعمة ويدخلون الفصل مزهوّين بثيابهم الجديدة، وأولئك ينظرون محسورين .. فما زلت (والله) بهم أبيِّن لهم أن الفضل بالعلم والخُلق والجِدّ .. لا بالمال والثياب والمظاهر .. أضرب لهم الأمثلة بعمر وعلي وابن عبد العزيز ... وأنزل بالأغنياء لأعلِّمهم فضيلة التواضع، وأرتفع بأولئك لألقنهم فضيلة العزَّة .. حتى صار بنو الأغنياء يستحيون أن يأتوا بالسيارات ويتوارون حياء وخجلاً إذا جاءتهم عند منصرف التلاميذ لتحملهم إلى دورهم .. وقد كانوا لا يستحيون ولا يخجلون .. وكانت النتيجة أن المعسكرين قد انقلبا إخواناً متصافين وظهر في كِليهما تلاميذ نابغون، ما كان لينبغوا أبداً لولا أن ألقوا من نفوسهم مذلَّة الفقر وكبرياء الغنى واستبدلوا بها عزَّة الكرامة وعظمة التواضع فيا ليت أن المدرسين ينتبهون جميعاً إلى هذا الأمر فيُسْدون إلى الأمة يداً ويكسبون من الله الأجر .. فإنه لا شيء أشد على نفس الفقير من أن يتحكم فيه أو يسموا عليه ابن الغني .. فيا أيها الأغنياء لا تَحْمِلوا أبناءكم على رقاب الناس فإنكم لا تدرون كم عدوَّاً تكسبون لهم، وماذا تفسدون من طبائعهم حين تأبون إلا أن تدللوهم هذا الدلال من كتاب (في سبيل الإصلاح) علي الطنطاوي
2014-04-18 08:16:23
يقول علي
sign in to comment
Be the first to comment