إن الكثرة الكاثرة من الناس في بلاد المسلمين مِنّا، وفينا الأموال، وفينا الكفايات، وفينا الأقلام .. والحكم في عرف الديمقراطية للأكثر .. ومع ذلك نجد الصحافة في أيدي (الآخرين) والنشر في أيديهم، والمدارس في أيديهم، وكل شيء في أيديهم .. إن أكثر هؤلاء الأشرار عُزّاب غير متزوجين، ليس لديهم ولدٌ يخافون عليه الفساد، ولا بنت يخشون على عفافها الضياع، فهم لذلك يفتحون علينا في صحفهم ومجلاتهم باباً بعد بابٍ للاختلاط والفجور والبغاء المُقَنَّع، يخترعون كل يوم له اسماً جديداً .. فمن (الحرية الفكرية) إلى (الحياة الفنية) إلى (الروح الرياضية) ... والمسمى واحد والغاية واحدة، وهي أن يستمتعوا المتعة المحرمة ببناتنا بالنظر إلى محاسنهن في الطريق .. والاختلاط بهن في المعهد .. ورؤية المستور على الشاطئ، وما يتبع النظرة من الابتسام وما بعد الابتسام من الكلام، ثم الموعد واللقاء، ثم .. ما نعرف وتعرفون غايةٌ طبيعيةٌ لا بُدَّ من بلوغها ، ومن أنكر ذلك لم يكن إلا أحمقَ أو كذاباً ملعوناً يُظْهِرُ غير ما يُبْطِن ويقول غير ما يعتقد وهل تُدَحْرِجُ الصخرة من فوق الجبل ليس أمامها شيء وتنتظر أن تقف على الطريق ؟!! هل تضع النار والبارود وترقُب ألا يكون انفجار بل يكون برد وسلام ؟!! لماذا نُنكر بألسنتنا ما تنطق به قلوبُنا وجوارُحُنا ؟!! لماذا نكون مثل هؤلاء (التقدميين) يفعلون كل شيء ولكن يستحيون من التصريح باسمه؟!! وكيف يجوز لهم في شرع هذه المدنية أن يهجموا علينا ولا يجوز لنا أن ندافع عن أنفسنا ؟!! أتبلغ الوقاحة باللص أن يأتي ليسرق عِرْضَ ابنتي جَهَاراً نهاراً ولا يحق لي أن أُحَصِّنها منه بالحجاب الشرعي وبالتربية الإسلامية وأن أدافع عن نفسي بالفكر والقلم واللسان ؟!! إننا في أنظارهم (رجعيون) و(جامدون) و (متعصيون) لأننا لم نقل لهم: تفضلوا انتقوا من تشاؤون من بناتنا لتصاحبوها في السينمات وتراقصوها في السهرات ... لقد بلغنا من المذلة والضعف أن صرنا نخشى اللِّص ونهرب منه لئلا نُشاهَدَ متلبِّسِين بهذه الجريمة الهمجية المخالفة للمدنية والتقدمية، جريمة منع اللص من أن يسرقنا .. لقد تبدَّلتِ المقاييس وتغيَّرت الأفهام فصار الناس يُجِلُّون البغايا من الممثلات والراقصات أكثر من الفاضلات الصالحات، ويحترمون المغنين والمغنيات أكثر من احترام المدرسات والمعلمات هذا كله ثمرة الغرسة الخبيثة التي غرسها فينا المستعمر .. وإنه لن يكون الجلاء حقاً حتى تجلو قوانين المستعمر عن محاكمنا وشُبَهُهُ عن رؤوسنا وعاداتُه عن بيوتنا كما جلت جنوده عن أرضنا وذلك في أيدينا .. نحن الكثرة الكاثرة، نحن الذين نملك الأموال والعقول والألسنة والأقلام ونملك هذه المنابر التي تستطيع أن تهُزَّ الأرض إذا علاها رجالٌ لا أشباهُ رجال من كتاب: (صور وخواطر) علي الطنطاوي