خطورة الخلافات الفرعية: شهدتُ نزاعاً محتدماً بين فريقين من الناس؛ أحدهما يرى الإسرار بالتأمين وراء الإمام .. والآخر يرى الجهر به (أي: قول: آمين .. والإسرار بالتأمين مذهب الحنفية، والجهر مذهب الشافعية) واقترح بعضهم الاحتكام إليَّ كي أضع حدَّاً لهذا النزاع .. قلت: التأمين دعاء .. والمهم فيه الضراعة والرجاء .. فإذا اشتدَّ النَّبْضُ في الدعاء فَعَلَا .. أو غلب التذَلُّلُ فَخَفَتْ فالأمر سواء .. قال أحد السامعين وعيناه تبرقان: ما فهمنا شيئاً ! قلت له: نعم وأنتم أهلُ ذلك .. فأنتم تريدون إجابةً تُرضي شيطان العنادِ الذي ينفخ في هذا الجدال الحادّ، ويجعل منكم أعداءً مُتدابرين .. وإذا لم يكن بدٌّ من إجابةٍ فقهية فاعلموا أن الإسرار مذهب والجهر مذهب .. وكلاهما واردٌ ومأجورٌ إن شاء الله .. وانصرف عني الفريقان ضائقين .. وشعرتُ بالراحة لابتعادِ أنفاسِهم عني .. بل شعرتُ بفقرِ أولئك الناس إلى المربي الطويلِ البال ينقلهم إلى مستوىً أرفع مما هم فيه من جلافةٍ تَعْزُلُهم عن روح العبادة وأدب الصلاة .. إن ذلك الخلافَ الفقهي نموذجٌ لعشراتٍ من أمثاله تشغل الدَّهماء وتُوْقِدُ الفتن وتُوْهِي الأخلاق وتقطع ما أمر الله به أن يوصل ويُخَيَّلُ إليَّ أن هذه الخلافات الفرعية تشبه صُوَرَ الجراثيم التي تُعْرَضُ علينا في كتب الصحة ويقال تحتها: ميكروب مَرض كذا مكبَّر ألف مرة .. وتكبير هذه الرسوم لمعرفتها مفهوم .. لكن ما معنى تكبير الفروق بين أفهامٍ أو آراءٍ لبعض العلماء حتى لتبدو وكأنها حقائق لمِلَلٍ مُتباعدة ?!! إن نتائج ذلك كانت وخيمة على مجتمعنا الديني .. فإن هذا التضخم المفتعل غطَّى مساحاتٍ واسعةٍ كان يجب أن تشغلها الأخلاق التي لا تنهض الأممُ إلا بها .. فبدل أن تُشْغَلَ الجماهير بتكوين فضائل الصدق والأمانة والوفاء والحياء .. إلخ شُغِلَتْ بما تظنه أكثرَ أجراً وأعظمَ ذُخراً .. وذلك وَهْمٌ بعيد .. فإن فقدان الأخلاق يعني امتداد النفاق وانتشار الفساد وضياع الأمم .. وعندي أن إشعال التعصُّب المذهبي كان خِطَّةً ماكرةً لصرف العامة عن النقد السياسي ومتابعة الأخطاء التي أَوْدَتْ بالدولة الإسلامية قديماً .. ويبدو أن الخطة لا تزال تُنَفَّذُ إلى الآن من كتاب: (الحق المرّ) الشيخ محمد الغزالي